1. الجمهورية الجزائرية الديموقراطية الشعبية

    وزارة التعليم العالي والبحث العلمي

    كلية العلوم الاجتماعية

    شعبة علم الاجتـــــماع

    السنــــــــــــــــة الثالثة

    مقياس: علم اجتماع المؤسسات

    مسؤول المقياس: الأستاذ الدكتور سيرات فتحي


     

     

     

     

     

     

     

    محاضرات مقياس علم اجتماع المؤسسات الخاصة بالسنة الثالثة المخصصة للنشر على مستوى منصــــــــــــــة مودل Moodel.

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     





    السنة الجامعية : 2022-2023

    فهرس المحتويات

    (الجزء الأول)

    -1مقدمة………….......................……………………….....………. .3

    2- تعريف المؤسسات …...…………................………………………. .3

    أ – أمثلة...............................................................................................4

    ب- توصيف المؤسسة.............................................................................. 4

    ج - تأثيرات المؤسسة ..............................................................................4

    3- المؤسسة في علم الاجتماع......................................................................5

    4- المؤسسة في القانون..............................................................................6

    5- المقاربة البنائية للمؤسسة........................................................................6

    6- المقاربة الوظيفية للمؤسسات ..................................................................6

    7- المقاربة التفاعلية للمؤسسة......................................................................9

    8- المقاربة السلوكية للمؤسات...................................................................10

    9- المقاربة الأنثروبولوجية للمؤسسة ..........................................................10

    10- المؤسسة عند ماكس فيبر....................................................................12

    11- المؤسسة و البنية الاجتماعية (حالة المغرب العربي)..................................13

    الفهرس.........................................................................................13+14

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

    1-   مقدمة

        إن المؤسسة هي من بين أهم العناصر المكونة للمجتمعات الحديثة، فهي الأكثر وضوحا حيث تتميز بشكل ملحوظ قبل كل شيء بدرجة عالية من الدوام، بل هي الأكثر بلورة لــرواسب تاريخ المجتمعات. حيث يمكن اعتبار المؤسسة بنية اجتماعية، في المقام الأول (أو نــــــــــــظام للعلاقات الاجتماعية) مع استقرار معين بمرور الوقت، أما التعريف أكثر أناقة هو القول بأن " المؤسسة هي قاعدة اللعبة الأكثر قبولا اجتماعيا".

       تقدم كل مؤسسة نفسها كمجموعة من المهام وقواعد العمل بين الناس من الممارسات، فكل مؤسسة هي مجموعة من المهام وقواعد سير بين أفراد المجتمع، فكل مؤسسة لها غاية نهائية وجدت من أجلها، فهي لا توجد ولا تمتلك ولا تقرر إلا من خلال ممارسات الفاعلين الذين يشكلونها. فنحن كدارسين سوسيولوجيين نهتم بدراسة أفعالها الداخلية ولكن كذلك نهتم بأفعالها الموجهة نحو الخارج.

        في الحقيقة إن المؤسسة هي نقطة الارتكاز التي يصبح من خلالها الأشخاص فاعلين اجتماعيين؛ فمن خلال المؤسسات  يصبح الأشخاص فاعلين اجتماعيين لهم مواهب ومهارات وقدرات، يمكن أن تجعل منهم أعضاء نشطاء في المجتمع؛ ومع ذلك يتطلب هذا المفهوم - المؤسسة - توضيحات وبناء نظري وممارسات أخرى خاصة بكل مجتمع.

    2-   تعريف المؤسسة:

         مصطلح "مؤسسة" يأتي اشتقاقا من اللاتينية - statuo- تعني "وضع في"، "تثبيت"، "إنشاء". لذا فإن عمليات إضفاء الطابع المؤسسي ستكون في الواقع عمليات من مؤسسة حيث جدلية مزدوجة الممؤسس والمؤسسinstitué et de l’instituant "أما الممؤسس بمعنى العملية أو المسار الذي من خلاله تقوم مجموعة إلى تنظيم نفسها - ونتيجة لذلك يظهر الممؤسس.".

        إن المؤسسة شيء يفرض نفسه علينا، شيء فيه نحن نعمل، فالمؤسسة يشغلها الفاعلون الذين لهم مصالح مختلفة. يمكن تقديم المؤسسة تحت شكل شــــــخص معنوي يحكمه القانون العام (الدولة والبرلمان)، أو بموجب القانون الخاص (جمعية)، أو مجـــــموعة لا- شخصية أو مؤسسة Fondation، أو نظام قانوني مثل الوصاية والوصفة والإفلاس ومصادرة شيء لصالح المنفعة العامة. المؤسسة هي شكل من أشكال العمل الاجتماعي والتي تحــــــتكر الفعل.

     

       أ- أمثلة:

    مؤسسة تعليمية = احتكار الدبلومات.

    مؤسسة دينية = احتكار الأسرار والطقوس.

    مؤسسات الزواج=احتكار العقود و الاتفاقيات: طرق التنظيم بين الأفراد السجن. المؤسسات القضائية = احتكار العقوبات، القوانين والحقوق والقواعد.

    المؤسسات القانونية والسياسية = احتكار القانون والتمثيل والشرعية.

    ب- توصيف المؤسسة:

    قياسي = ترجمة قيمة تصبح المعايير الشخصية معايير اجتماعية ثم مبادئ اخلاقية عامة

    الاتفاقية = اتفاقية رسمية بين الفئات الاجتماعية وربما النصوص التي تشهد على ذلك

    الاتفاق بين الأفراد وهذا باحترام عددًا معينًا من القواعد بدونها لن يكون واضحا.

    القاعدة = الوصفة المفروضة على الفرد دون أن يكون له للموافقة: حرف الزجري

    النظام = مجموعة من القواعد التي تضمن الأداء الاجتماعي، القانوني، أمر الشرطة،

    نقابة الأطباء والمحامين ...

    القانون = مجموعة من المبادئ القانونية التي تحكم العلاقات بين الاشخاص. القواعد والقيم الاتفاقيات المنصوص عليها في القانون.

    الطقوس = تعمل المؤسسة حسب الإجراءات الطقوسية.، في العادة باستخدام التقاليد.

    ج- تأثيرات المؤسسة:

    الحكم الذاتي: الاستقلال والإدارة الذاتية وإمكانية اتخاذ القرار من دون الرجوع إلى سلطة أخرى مركزية. فالمؤسسة في هذه الحالة لا تقدم تبريرا.

    الاحتكار: القوة الحصرية لتصنيع وبيع وتوزيع واستغلال السلع والخدمات، امتياز حصري يقره أحيانا الحق.

    الشرعية: شيء يعترف به القانون، تأسست في المحكمة، في القانون أو في الأسهم.

    التمثيل: إجراء تمثيل شخص أو إجراء الممثل الذي يقوم بعمل بالاسم وعلى الحساب

    من ممثل مفهوم التكليف

    السلطة /  الهيمنة: خاصية السلطة والقوة المطلوبة لغرض الطاعة (حسب ماكس فيبر)

    الهيمنة: فكرة أننا يمكن أن تعقد شخص أو مجموعة تحت سلطته، كيف يتم فرض المؤسسات وكيف تنشأ مقاومتها.

    العقوبة: العقوبة المفروضة على الفرد من قبل السلطة (مؤسسة) لتنفيذ أمر أو قانون أو أمرالتنظيم.

    المعارضة: التعبير العام الذي يخلق قطيعة مع الآخرين والتشكيك في الشرعية، شكل من المقاومة.

    3-   المؤسسة في علم الاجتماع:

        إن مفهوم المؤسسة هو أساسي في نشأة علم الاجتماع الفرنسي، بالنسبة لإميل دوركايم (Emile Durkheim تسمح المؤسسة ببناء علم الاجتماع كعلم اجتماعي مستقل" قواعد المنهج في علم الاجتماع :1894 " إن علم الاجتماع هو علم المؤسسات، نشأتها وعملها ". فالمؤسسات هي طرق جماعية للعمل والتفكير، ولديها وجودها الخاص بها خارج إرادة الأفراد. فبالنسبة لإميل دوركايم فالظواهر الاجتماعية ليست طبيعية ومفهومة على الفور ولكن يجب فهمها من خلال التجريب والملاحظة، فالظواهر الاجتماعية تمارس تأثيرا قسريا على الاشخاص.

        وفقًا لدوركايم، يُفرض علينا النظام المؤسسي المدرسي نفسه كمعطى في حياتنا، نحن ندرك قوة هذه المؤسسة. فالفعل الاجتماعي هو قيد مفروض على الفرد دون أن يكون هذا الاخير بالضرورة واعي به (خارجي عن إرادة لأفراد).

        أما ماكس ويبر (Max weber) (1864-1920) مؤسس المدرسة الألمانية في علم الاجتماع، بالنسبة له تقترب المؤسسة من فكرة الجمعية، وهي منظم للعلاقات الاجتماعية. فمفهوم المؤسسة هو عملية تميل إلى تنظيم العلاقات مع النماذج الاجتماعية.

        وفقا لتوماس ويليامز (Thomas williams) يتميز الانسان عن الحيوان من خـــــــــلال قدرته على اتخاذ القرارات، فالإنسان لديه إرادة حرة وقدرة على تحديد أفعاله وسلوكياته. فهو يعتمد على مؤسسات كان فكر فيها وأنشأها أناس أخرون من قبل.

         إن المصلحة الفردية (المتميزة بالمتعة) لا تتماش دائمًا مع مصلحة المجتمع (المتميزة بالنفعية)، لذا يتعين على المجتمع فرض عدد معين من قواعد الحياة المشتركة. بالتالي فمهنة عالم الاجتماع هو تحديد وتعريف وضعية من خلال خصائصها الفردية وقواعدها المؤسسية وأطرها التاريخية، فتوماس ويليام هو ذو بعد تجريبي وهو من أقطاب مدرسة شيكاغو.

        أما بالنسبة لتالكوت بارسونز (Talcott Parsons) (1902-1979) هو عالم اجتماع أمريكي، يصر على استخدام مفهوم البنى المؤسسية.

         بالنسبة لأروينق قوفمان (Erwing Goffman) (1922-1982) بالنسبة له مصطلح المؤسسة تهم المنظمات الاجتماعية المختلفة. هذه أماكن مفتوحة أو مغلقة، فتصنيف هذه المؤسسات حسب مجموع المؤسسات، ينصب العقبات بين أولئك الذين هم خارج ومن هم في المؤسسة.

    4 - المؤسسة في القانون

          إن ميشال هوريو (Michel Hauriou) (1925) في نظرية المؤسسة والتنظيم " يقدم فكرة تطورية لتعريفها "إن المؤسسة عبارة عن مشروع عمل يتم تنفيذه ويستمر قانونيا في بيئة اجتماعية ما، لتحقيق ذلك المشروع، يتم تنظيم السلطة ويعطيها لأعضائها، وغيرها حصة مختلف أعضاء المشروع بما في ذلك المهتمين بتحقيق الفكرة والمشروع، فهناك مظاهر الاتصالات الموجهة أو المنظمة من قبل السلطات والتي تنظمها الإجراءات ".

    5- المقاربة البنائية للمؤسسة

         المؤسسة في هذا المنظور هي بنية حقيقية في المعنى البنيوي للمصطلح "فــــهي قوانين التراكيب التي تجمع بين العناصر داخليًا " وبالتالي فإن المؤسسة تضم الأفراد داخلها. بالمعنى المادي للمصطلح وهو يمارس نظامه المؤسسي في العلاقات الاجتماعية، وبالتالي فإن المؤسسة ليست كذلك ببساطة النظام السيميائي المتعلق بالخيالي والنفساني، المؤسسة هي أيضا تعني الفعل، ودمج الأفراد والسيطرة التي تمارس عليها الأفراد من خلال التوزيع الاجتماعي للمهام والأدوار داخل الفضاء المنظم اجتماعيا، وبعبارة أخرى المؤسسة موضعي أيضًا. بهذا المعنى، المدرسة هي مؤسسة، المسجد، المستشفى...الخ ولكن أيضا أي مكان اجتماعي منظم حيث قوانين التراكيب (الهياكل) ترتيب العلاقات وتنظيمها اجتماعي. فالسيرك والمسرح والأوبرا والسينما مؤسسات مثل المترو، القطار، ملاعب كرة القدم، سوبر ماركت، مقهى...الخ، وهو مجال يضم الأفراد وينظم سلوكهم داخل مجال موضعي محدد (والتي يمكن تسميتها هنا الفضاء السيميائي للعمل). الجسد ليس بعيدًا أبدًا عن المعبد (أولمبيا) والمؤسسة ما هي عبارة عن قواعد العمل المقدس والاندماج في بعض المخارج.

    6- المقاربة الوظيفية للمؤسسة

         في فضاء علم الاجتماع الفرنسي الذي بني في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فلم يكن كذلك على الفور استخدام مفهوم المؤسسة، حيث أن دوركهايم ومرافقيه أكدوا على امكانية تناغم الفرد والمجتمع. فمن المعروف مع ذلك، أن الأب المؤسس لعلم الاجتماع الفرنسي مدين للمدرسة التاريخية الألمانية - لكتاباتها المبكرة على الأقل. فالتقليد لم يكن مطلقا ولكن التأثير ملحوظ هذا صحيح، وبشكل خاص فيما يتعلق بالتطرق إلى إطار الإشكاليات الاجتماعية التي رسمها اميل دوركهايم بعد إقامته في ألمانيا.

    بالرغم من التعديلات الموضوعية والتحليلية التي قد تفشل في اكتشاف عمل اميل دوركهايم، فمن المدهش أخيرًا أن هذا الأخير اعتمد مصطلح المؤسسة، حتى لو كان متأخرا - يظهر مفهوم المؤسسة في مقدمة للطبعة الثانية من قواعد المنهج في علم الاجتماع - البيان لا لبس فيه. تابع يلاحظ كل من بول فوكوني (Paul Fauconnet) واميل دوركهايم (E. Durkheim) ومارسيل موس (Marcel Mauss) "هناك كلمة، بشرط، مع ذلك، أن نوسع معناها قليلاً بالمقارنة مع العادة، فهي تعبر بشكل جيد عن هذه الطريقة الخاصة جدًا في الوجود: إنها المؤسسة، فيمكننا في الواقع، دون تشويه معنى هذا التعبير" فالمؤسسة هي جميع المعتقدات وجميع الطرق والمسالك التي وضعها المجتمع" بالتالي يمكن تعريف علم الاجتماع: بعلم المؤسسات، نشأتها، ووظيفتها.

         يضيف إميل دوركهايم التهميش السفلي لنفس الصفحة بالإضافة إلى هذا التعريف    " أن المؤسسة لا تعني بالضرورة التوافق، كل واحد منا يعطي رؤية للمؤسسات الجماعية بطريقته الخاصة من خلال استيعابهم، و فرّدانيتهم".

    فــــدرجة التقييس التي تفرضها المؤسسات متغير خلاف ذلك، فإذا قارنا حالة المؤسسة في الدين، هي بالفعل أضعف بكثير بالمقارنة مع الحياة الاقتصادية.

             مفهوم المؤسسة عند دوركهايم؟

             في الأصل، فمفهوم التنظيم هو عبارة عن كل أو تشكيل شامل، بل حتى مجموعة قوانين عمل نظام كلي. وبهذا المعنى يتم استخدام هذا المفهوم في علم الأحياء البيولوجـــــــيا، التي تطلق على نفسها علم الكائنات المنظمة، والتي منها انتقل شيئا فشيئا إلى علم الاجتماع عن طريق الحد من مجال استعمال المفهوم في الجزء الأساسي من الجسم الاجتماعي، بل حتى للفرد. فمنذ بداية القرن العشرين، أصبح مفهوم المنظمة يدل على كل من المجتمع كله والجزء منه كالمجموعة الفرعية المقيدة التي هي مقاولة أو مصنع أو إدارة أو جمعية. فبنية المجموعة الابتدائية أو الأولية يفترض منها أن تقوم بإعادة إنتاج ذلك الكل الذي تشكل جزءًا منه، مثل علم الأحياء، حيث يكون السكان مجموعة، أكثر أو أقل اجتماعية حسب الأنواع والأفراد يميل المنطق من حيث التنظيم إلى تفتيت الأفراد وتجمعات الأفراد والمنظمات كمجموعات. من خلال النظر إلى المجتمع من عناصرها المجمعة، وبالتالي النظر إلى المجتمع كمجموعة من الأفراد، أين يتم الانزلاق وتخفيض المعنى إلى مجموعات ابتدائية صغيرة، أكثر أو أقل رثاء من القرابة، حتى من الأديان، ثم من الجوار، لننتقل إلى المجتمع العالمي وإلى التجمعات الكلية التي تشكله.

        من المدهش أن نلاحظ أن إميل دوركهايم لا يستخدم مفهوم التنظيم في هذا المعنى الأولي. طوال عمله، فهو يعتبر المنظمة بمثابة بني عامة للنظام أكثر أو أقل تفصيلا، مما يؤدي إلى التسلسل الهرمي للمجتمعات من أبسط و "أدنى" إلى الأكثر تعقيدًا.

    على سبيل المثال، المجتمعات الأسترالية البدائية، وبشكل عام كل تلك المبنية على أسس عشائرية وقبلية، تمثل "شكل التنظيم الاجتماعي الأولي الأقل والأبسط الذي نعرفه ".

    مبدئيا، فإن النواة الاجتماعية الأولى والحقيقية ستشكل من قبل المجتمع حيث سيجتمع جميع الأفراد على حد سواء، حيث لا يمكن معاينة لا شكل ولا تنظيم اجتماعي. بذلك سيستخدم إميل دوركهايم مفهوم التنظيم وهذا حتى نهاية حياته بنفس الطريقة التي استعملها علماء الأحياء: سيكون هناك أكثر بدائية، لأنها بسيطة أو غير متجانسة مع الآخرين، علاوة على ذلك، ستحتفظ الأشكال المعاصرة بآثار الماضي، كما يعيد إنتاج الجنين تطور السلالة في علم الأحياء. " حيث نجد بين الشعوب الأكثر تقدما اجتماعيا رواسب وبقايا تنظيمات اجتماعية أكثر بدائية." وأنواع المجتمع سوف تتكون من "تكرار الأنواع السابقة مباشرة ". فالمفهوم يعني العلاقة بين التجمعات التي هي ليست سوى تصنيف، يكتب إميل دوركهايم. منظمة أكثر أو أقل عندما تكون أكثر كمالاً، أي يتكون من طبقات من الماضي وعناصر مختلفة.

          ومع ذلك، وعلى عكس الكائنات الطبيعية، التي تتم تعديل وظائفها الداخلية ميكانيكيا، فمؤسسة الطبقات هي ثقافية، وهي مجال للنضالات والصراعات في المجتمعات.

    لم يتغير استخدام دوركهايم لمفهوم التنظيم طوال حياته، على العكس من ذلك طور إميل دوركهايم في وقت مبكر جدًا مفهوم المؤسسة يتعارض مع رؤيته الخاصة المبنية على نموذج التنظيم. ففي قراء لـــــلواقع، من المحتمل جدا أن لا مجتمع بشكل واحد أو عبارة عن مجموعة نقية من الأفراد يشبهون بعضهم البعض، وعبارة عن مستنسخات اجتماعية، لم تكن موجودة في تاريخ الإنسانية أبدا. نحن نعلم أن إميل دوركهايم يعارض المد التضامني، والذي هو ملتزم به دون تحفظ، إلى النفعية التي كان يحاربها دائما. بالنسبة له فالإنسان ليس أنانيًا بشكل طبيعي ولكنه غيري. إذا كان التضامن أولي فمن الصعب أن نرى كيف ذلك يمكن أن يحدث بشكل طبيعي. إنها مؤسسة اجتماعية، و بالتالي رمزية وتاريخية. لا يوجد شيء طبيعي في ذلك. فإميل دوركهايم واضح جدا في هذا الصدد، مما يبرز تناقض بين نظرته التطورية ومفهومه المؤسسي للمجتمع. في دورات العلوم يكتب التعليم: "مما تعلمه الحيوان خلال وجوده الكوني، لا شيء تقريبًا بقي وعاش له، لكن على العكس، الإنسان يقوم بالحفاظ على نتائج تجاربه الإنسانية بالكامل تقريبًا وصولاً إلى التفاصيل الصغيرة لم يضعها، وهذا بفضل الكتب، الآثار والأدوات التصويرية بجميع أنواعها والتي تنتقل من جيل إلى جيل، إلى التقليد الشفهي، بدلا من تبديد كل جيل يخرج ويستبدل بحكمة إنسانية أخرى يتراكم بلا نهاية، وهذا التراكم اللانهائي هو الذي رفع الإنسان فوق الحيوان ورقاه إلى الإنسانية ".

    7- المقاربة التفاعلية للمؤسسة

          المؤسسة متجذرة بعمق في قلب التفاعلات، فهذه التفاعلات نفسها تعيد إنتاج المؤسسة، مثلما الدروس تعيد انتاج المؤسسة التعليمية، أو مؤتمر المؤسسة الأكاديمية. على الرغم من أن أروين قوفمان (Erwing Goffman) رأى جيدا وحلل أطر التفاعل ومنطقها على مستوى حالات الجسم والتمثيل الذاتي، لكن أنتوني قيدنز Giddens هو الذي رأى جيدًا في وجهة نظره الهيكلية أهمية الروتين في هيكلة البنية الاجتماعية، خاصة فيما يتعلق بالتفاعلات، على الرغم على ما يبدو من أن هذه البنى هي سريعة الزوال وغير مستقرة.

    "إن تثبيت الأشكال المؤسسية لا وجود له على الرغم من اللقاءات التي تحدث في مجرى الحياة، فليس أكثر من خارج هذه الاجتماعات؛ فهي تحتوي على عناصر الثبات وهناك مساهمة روتينية للاجتماعات فهي تساهم بطريقة حاسمة في ربط المواجهة السريعة الزوال بالتكاثر الاجتماعية وبالتالي إلى التثبيت الواضح للمؤسسات " وهذا خاصة من خلال تحديث الاجتماعات (نقاش)، ومن خلال المحادثات اليومية. وهكذا تساهم التفاعلات في تجديد التأسيس وتحديث المعهد، مع المساعدة في جعل الأفراد الذين يعملون داخل الهياكل المؤسسية أعضاء المؤسسة وبالتالي يجددون رمزيا واجتماعيا هيئة للمؤسسة. لذلك هناك حقيقية أنثروبولوجية للارتباط المؤسسي، الذي يتجلى من خلال طقوس التفاعل، والتي تعيد إنتاج الجسد الاجتماعي رمزيا. فالمناهج الأنثروبولوجية للتيار المؤسسي الجديد: دي مارش وأولسن. هذين يشمل المؤلفون على هامش الحكم الذاتي للبيئة الاجتماعية. ثم يصرون على دور المؤسسة "كمجموعة من الإجراءات والمعايير التي تحدد وتدافع عن القيم والمعايير والمؤسسات، الهويات والمعتقدات ". طبقوا هذه النظرية على المفوضية الأوروبية ولدى محكمة العدل الأوروبية. المؤسسات هي أكثر من طاولات أو ساحات المساومة الصراع ولكن تولد مخاوف مؤسسية من شأنها تحديد سلوكيات الممثلين. تنقطع النزعة الجديدة عن النموذج السلوكي الذي يرى في المؤسسات نظير المحددات الاجتماعية (التنظيم الاجتماعي والصراع والصراعات الاجتماعية).

    8- المقاربة السلوكية للمؤسسات

          خلال الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، التي اتسمت بها الدراسة العلمية والتجريبية لسلوك الأشخاص بغض النظر عن نواياهم، فالمؤسسات لديها استقلالية تفصلهم عن بيئتهم الاجتماعية (وفقًا للمؤسسين الجدد). يمكن أن تتطور إجراءات توليد معاييرها، فما يمكن أن ننتقده للمؤسسية الجديدة هو عدم الاهتمام بممارسة الجهات الفاعلة داخل المؤسسات أو استخدام الجهات الفاعلة للمؤسسة.

     إن مقاربة بيرغر ولكومان (Berger + Luckmann) للمؤسسات يتجسد من خلال مؤلفهم "البناء الاجتماعي للواقع". إن المؤسسة حسبهم لها مسار عام يختلف عن المقاربة العامة للمؤسستين الجدد (Néo- institutionnalistes) وهي تتميز بثلاثة 3 مراحل: عملية النقل إلى الخارج، عملية الاستبطان الداخلي وأخيرا عملية النقل الموضوعي.

    أما عملية النقل إلى الخارج: هي العملية التي تجعل المؤسسة تنفصل عن الأفراد الذين كانوا في الأصل هم من أسسوها، فعملية النقل الموضوعي فهو مسار من خلاله المؤسسات تكتسب حقيقة موضوعية أو تنفصل بنفسها عن أفراد في المجموعة. أما عملية الاستبطان الداخلي فهي العملية التي ترى المؤسسات التي سيتم دمجها في تجربة الجميع، يتم دمجها عند الأفراد، إن التركيز ينصب على الجهات الفاعلة في المؤسسة، وعلى الاستخدامات التي يصنعونها للمؤسسة مع العلم أن هؤلاء الممثلين هم يهتمون بتحديد دور السلطة والقدرة.

    9- المقاربة الأنثروبولوجية للمؤسسات

       -أ-  ماري دوغلاس (Mary Douglas) " هكذا نفكر في المؤسسات" 1986.

        إنها ليست الشخصية القانونية الكافية لإعطاء مجموعة أو مؤسسة أو فكرة أو شعور مصمم. فــــليس الوجود القانوني للمؤسسة هو من يعطيه السلوك المناسب؛ هذه الفكرة تتعارض مع نظريات أخرى: ماركسية، فردانية أو عقلانية. بالنسبة للماركسية، نفترض أن الطبقة الاجتماعية تتصرف وتصور وفقا لمصالحها وبالتالي فإن المؤسسات هي انعكاس للصراعات الطبقية. بالنسبة للمقاربة العقلانية، فهي تقدم للعمل الجماعي الذي يقوم على حسابات التكلفة والفائدة بين الافراد.

         بالنسبة لماري دوجلاس، تعتقد أن الاشخاص يساهمون في المجتمع بدون اهتمام شخصي واضح. في هذه المسلمة تقوم بتطوير نهجها تجاه المؤسسات. فالمؤسسات بالنسبة لها هي المنتجة الاساسية للهوية. فالمؤسسات تتذكر وتنسى. فالمؤسسات تقوم بتصنيفات داخل المجتمع، فهناك الجانب التصنيفي في كل مؤسسة.

        إنها تتبع نهج دوركهايم الذي يحاول في شرحه كيف قامت المؤسسات بالتصنيفات. فالنسبة له فإن المقدس هو الذي يخلق المؤسسة، ففي الأشكال الاجتماعية الأولية لا يوجد دستور، لا ملك، ولا سلطة إكراهية عليا، رغم أنها ليست مقدسًة جدًا؛ فمن خلال التصنيفات، يمكن التفكير في المؤسسات. هذه التصنيفات بالفعل قدمت جميع الأخطاء في نفس وقت سيرورة الحياة الاجتماعية. هذه التصنيفات هي مغروسة في الأشخاص.

         إن هذه التصنيفات تعمل على جميع مستويات المجتمع، ففي القمة نجد القواعد الاجتماعية الأكثر عمومية التي تحدد فئات التفكير. ففيها رؤيتنا وطريقة تفكيرنا. يمكن أن تكون مؤسسة العائلة، في داخلها أشخاص يعيدون إنتاج أنماط السلطة وتقسيم العمل؛ فـالأفراد لا يتحكمون في التصنيفات، هم فقط مجال للمناورة هو تحديد الخيارات داخلها.

    - يبني الاشخاص بشكل جماعي المؤسسات - تنشئ المؤسسات التصنيفات - تمنح التصنيفات مقابل مبادئ تحديد المواطن - هذه المبادئ التي تحدد الهويات تسمح للأشخاص بالتفكير بأنفسهم في المجتمع وتفكير العالم في المجتمع.

    -ب- مارك ابليس

        مارك أبيلس (Marc Abélés) عالم إثنولوجيا فرنسي أنشأ مختبر أبحاث في باريس: مختبر انثروبولوجيا المؤسسات والمنظمات الاجتماعية.

        يركز هذا النهج على كيفية بناء المؤسسة لميدانها ويحدد مساحة سياسية، إنه يتعلق بمراقبة الظواهر الجماعية لتعبئة الموارد الثقافية لــــلأفراد في مساحة المحددة. هذا على عدة سجلات: عاطفية، رمزية، فكرية، عملية. السجل العاطفي: العلاقة بين المؤسسة و

    الأفراد - السجل الرمزي والسجل الفكري: العلاقة بين إنتاج الأفكار، وأخيرا سجل الممارسة: إنها ممارسة الفرد في المؤسسة.

         إن ثقافة المؤسسات هي خصوصية تظهر كيف تنتج المؤسسات الثقافة. إن العلاقة بين الثقافة والمؤسسة قد تبدو متناقضة، لأنه قد تظهر الثقافة كترابط بشكل عام للمجتمع، حتى وإن كانت المؤسسة ليست نتاج لمسار متناغم، ولكن عملية تجزيئية تتميز من خلال تقسيم العمل والكفاءة المهنية.

        لذلك نعرف ونقول "إن ثقافة المؤسسة هي مجموعة المواقف والسلوكيات المكتسبة داخل المؤسسة " بالتالي فثقافة المؤسسة لا تلعب فقط في المساحة الداخلية للمؤسسة.

    10- المؤسسة عند ماكس فيبر

         يعتبر ماكس فيبر البيروقراطية بمثابة مجموعة عقلانية من الأنشطة الاجتماعية. بالنسبة له تمارس الدولة الحديثة هيمنتها الشرعية والعقلانية من خلال قانون عقلاني قائم على سلطة القانون.

        فالإدارة تفرض شكلا مشتركا على أعوانها ولكن يمكن أن نلاحظ وجود اختلافات في الثقافة الإدارية في الإدارات. فحسب ماكس فيبر، ضمن الإطار الإداري العام، تتطور قطاعات بخصوصيات ثقافية.

          إن عملية التعرف على هذه الثقافات لا يمكن أن يكون إلا خلال الجهاز الداخلي للدولة. فــــالفرد الخارجي ليس على علم بتلك التجزيآت بسبب التسامي بمبدأ وحدانية الدولة؛ إن هذه الخصوصيات يمكن ملاحظتها بين الإدارات المتطابقة لمختلف الدول. فأعوان الإدارة يقدمون صفات ثقافية محددة مرتبطة بصفاتهم أو تقاليدهم الوطنية.

    تتطور هذه الثقافات وفقًا لتطور المجتمع، فغالبًا ما تكون ثقافة المؤسسة مستغلة ومستعملة، فهناك حاجة إلى تحسين إدارة المؤسسات والمنظمات، فهناك تفهم تام للرغبة في إدخال ثقافة داخل المؤسسات.

          فالمقاربة من خلال مفهوم الثقافة داخل المؤسسات، فهي تتعامل معها بلغة أو بلغات المؤسسات. إنها تجلي فوري لـــلخصائص الثقافية للمؤسسات. نحن نتحدث عن لغة البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي. اللغة هي انعكاس للممارسة الجماعية للمؤسسة وقد يكون لها آثار جانبية من حيث الإنتاج التفكري العلمي للمؤسسات وتحولها بشكل عام.

    يهتم علماء الأنثروبولوجيا بالحياة اليومية داخل المؤسسات، لأنماط العلاقات بين الأشخاص داخل المؤسسات.

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     

    11- المؤسسة و البنية الاجتماعية (حالة المغرب العربي)

    « En   Afrique  du   nord   une   part  des  Phénomènes

     Tient à   leur signes  une  Part  de   l’Histoire,   comme  

     De la morphologie des groupes tient à la vie des mots.» (*)

    إن في زمن عولمة المعرفة من خلال نشر و تعميم النظريات التي سميت (علمية)، المفاهيم و المصطلحات، أصبحت عملية الاستغناء عن هذه المرجعيات ضربا من ضروب الخيال و المغامرة غير محسوبة العواقب في الدراسات الاجتماعية، خاصة إذا كان موضوعا على شاكلة موضوعنا هذا (البنى الاجتماعية للسياسي في الجزائر)، و هو الذي أشبعته الدراسات العالمية بحثا و تنقيبا و نقدا بـــالمغرب العربي بصفة أخص.

    فهذه الظاهرة ما انفكت في الفترة الأخيرة تحرك واجهات الأحداث محليا و إقليميــــــــــــــــــــا و دوليا، لكن من المفارقات الرهيبة أن التأثيرات الإيديولوجية لنزعة التحديث و المد التحرري و ظهور الدولة الوطنية في الفترة المعاصرة، أدى إلى هجر و تحاشي كل المواضيع السوسيولوجية التي لها صلة بالبناء التقليدي للمجتمع المغاربي بذلك اهتممت بالدرجة الأولى بكل ما يرمز إلى الحداثة (المدرسة، المجال العام، الدولة، الديمقراطية، التصنيع، المدنية...)، ماعدا ذلك وضعت في خانة بقايا الاستعمار.

    على النقيض من ذلك،  فإن الدارسين الغربيين (1) ما انفكوا يتشبثون بالمعطى السكوني للمجتمعات المغاربية ، و يؤكدون على أن المعطى الوحيد لفهم هذه المجتمعات هو فهم منظومة بدناءتها القبلية و العشائرية لفهم منـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــظومتها الأخـــــــــــــــرى

    (*) Barque. (J) : que est-ce qui une tribu norde africaine ? In : Maghreb histoire et société….op cit. p 31.    

     

    (1)    في شرح و نقد هذا التوجه إرجع إلى أعمال جاك بارك و كذالك بيار بورديو خاصة في :

    Barque. (J) : Cent vingt-cinq ans de sociologie Maghrébine. In : Opéra minera 2 : Histoire et Anthropologie du Maghreb. Paris, édition, Bouchain, 1998.pp 296-324.

    Bourdieu (P) : Sociologie de l’Algérie. Alger TAFAT édition, 2016. (1 édition 1961).

    ( السياسية، الاقتصادية، المعيارية، الرمزية)؛ إننا لا ننكر تماما الدور الهام الذي لعبته هـــــــذه البناءات التقليدية في صيرورة تاريخ هذه المجتمعات، التي سميت أحيانا بمجتمعات بــــــــــــــــــــــــلا تاريخ أو بادرة؛ لكن هذا لا يمكن أن يفسر تماما كل الصيرورة السوسيو-تاريخية لهذه للمجتمعات (1).

     و هنا نفرق بين (5) مدارس أساسية في التطرق للدراسات التي اهتمت بالموضوع:

    1- المدرسة الخلدونية.

    2- المدرسة الكولونيالية الإستشراقية.

    3- المدرسة الانقسامية.

    4- المدرسة الماركسية.

    5-  مدرسة علم الاجتماع السياسي الكلاسيكي.

     

     

     

     

     

     

     

     

    (1)    حول موضوع المجتمع المحلي أو المجتمعات المحلية ارجع خاصة إلى : كلودين شولي، المحلي الأصل و المصطلح، مجلة إنسانيات العدد رقم 04-2013- وهران 2013

    - أ – المبحث الأول : المدرسة الخلدونية:

      ابن خلدون هو عبد الرحمان بن محمد بن خلدون (1406-1432) ولد في تونس و عاش وقت طويل في الـــــــــمغرب الأوسط (الجزائر) و توفي في مصر (1).

    إن السؤال الذي يطرح: لماذا ابن خلدون و ليس المفكرون الآخرون؟ إن ابن خلدون المفكر و الفيلسوف تارة و المعارض للفلسفة تارة أخرى، المؤرخ و رجل التاريخ و لكن بالأساس ذلك السياسي الملتزم، الذي وظف فكره لخدمة السياسة، لكن بالأخص هو المفكر الذي وظف مشاركته السياسية في بلورة دراسته حول المجتمعات التي كان يعيش فيها تحليلا و دراسة؛ إن هذه التجربة برمتها سوف تتبلور في علمه الجديد (علم العمران البشري)! هذا العلم الذي وضع موضوع للاختصاصه: دراسة العمران البشري من منطلق فكري جديد مبني بصفة خاصة على رؤية المجتمع رؤية جديدة و متجددة.

    فعلميا لا يمكن أن نغالي في وصف هذا العلم الجديد، الذي توصل إليه بالعلم الكامل و المنطقي و العقلي أو الوضعي، كما تصوره و أسسه فيما بعد أوغيست كونت و أميل دوركهايم  في القرنين 19 و20، ألا و هو علم الاجتماع بالمفهوم الحديث؛ و إن كان بعض الدارسين يؤكدون أن علم العمران البشري و الاجتماع الانساني هو عبارة عن أنثروبولوجيا سياسية كاملة النضج و و اضحة المعالم، و لو في صورتها الجنينية (2).

     إن كان موضوع الانثروبولوجيا السياسية هو الانسان ككائن سياسي، و الطريقة التي تنظم بها المجتمعات أحوالها السياسية المجسدة خاصة في السلطة السياسية، فـــــــــــــإن

    (1) لمعرفة تفاصيل حياة ابن خلدون ارجع إلى كتابه (التعريف) الذي ألفه هو شخصيا كسيرة ذاتية، إرجع إلى :

    ابن خلدون، أبو زيد عبد الرحمن بن محمد: التعريف بابن خلدون و رحلته غربا و شرقا. عارضه بأصوله و علق حواشيه محمد بن تاويت الطنجي. القاهرة، لجنة التأليف و الترجمة وا لنشر، 1951.

    (2) ارجع إلــــــى:

    حمداوي محمد : القرابة و السلطة عند ابن خلدون : البذور الجنينة الأنثروبولوجيا سياسية. في : أي مستقبل للأنثروبولجيا في الجزائر؟ منسق : نذير معروف و خديجة و فوزي عادل، منشورات مركز البحث في الانثروبولوجيا الاجتماعيــــــــــــــــــــــــــــــــة و الثقافية (CRASC) ، 2002. ص 33.

    موضوع علم العمران البشري عند ابن خلدون هو دراسة القرابة و العصبية و علاقتها بالسلطة السياسية و مفهوم " الملك " (1).

    إن أهم شيء في هذا البحث هو أن المفكر ابن خلدون كان مصدر إلهام لنا في إنجازنا لهذا البحث بصورة كبيرة، فقد كان هذا الأخير مفكر و باحث سياسي عفوي امتـــــــــــهن السياسة و جاور الحكام و شارك في صراعات السلطة، عرف المكائد، النكبات و السجن. كل هذه التجارب صقلت في مؤلفات ابن خلدون و أنشأت نظرية عظيمة في الاجتماع البشري تجسدت خاصة في فكرة العصبية و الدولة.

    - العصبية و الدولة عند ابن خلدون (2)

    يؤسس ابن خلدون دراسته للعصبية، و بيان الأساس الذي تقوم عليه و الدور الذي تلعبه في الحياة الاجتماعية عموما، و حركة التاريخ خصوصا من فكرته في الوازع و الذي جعله ضرورة من ضروريات الاجتماع البشري؛ فقد سار ابن خلدون على خطى أرسطو من خلال مسلمة (اجتماعية الإنسان) فالإنسان مدني و اجتماعي بطبعه، إن اجتماعية الإنسان تفرضها ضرورة التعاون من أجل تحصيل الغذاء الذي هو قوام وجوده؛ هذا من جهة و من جهة ثانية " الطبع العدواني الذي في البشر و هو من أثار القوى الحيوانية فيهم، فمن أخلاق البشر فيهم الظن و العدوان بعض على بعض فمن امتدت عينه إلى متاع أخيه امتدت يده إلى أخذه، إلا أن يصده وازع " (3).

    فالحاجة إلى الوازع تفرضها طبيعة الإنسان بالفطرة، فــــفيه الشر و الخير فـــــــــــــي آن

     

    (1)    حمداوي محمد : القرابة و السلطة عند ابن خلدون : البذور الجنينة للأنثروبولوجيا السياسية.... نفس المرجع ص

    (2)    حول المسألة ارجع خاصة:

    الجابري محمد عابد: فكر إبن خلدون: العصبية و الدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي، بيروت، مركز دراسات الوحدة العربية، الطبعة 9،  ، 2011.

    (3) نفس المرجع .... ص 163.

    واحد، و عليه فهو مجبر على التعاون و العدوان، فقيام الحياة الاجتماعية و الإنسانية مرتبطـة ارتباط وثيق بوجود وازع و سلطة تحفظ للمجتمع انسجامه؛ هل هذا الوازع عند ابن خلدون هو السلطة المادية التي تتجسد في الدولة ؟ أو يقصد فقط السلطة المعنوية، التي يمارسها بعض الأشخاص على البعض الأخر في الأحوال خاصة؟(1).

           إن فكرة الوازع عنده تنطبق على هذا و ذاك معا، فهي تتدرج عنده من مجرد السلطة المعنوية لشيوخ البدو و كبارهم إلى السلطة المادية التي تقوم على الغلبة و السلطان و اليد القاهرة أي بكلمة واحدة مفهوم " الملك " (2).

    إن الوازع الذي يهتم به ابن خلدون هو الذي يراد به دفع هذا العدوان للبشر عن بعضهم البعض و الذي يجب أن يكون قوة غالبة و يدا قاهرة، لكن هذا الوازع يختلف اختلاف البيئة التي يكون فيها و هنا ابن خلدون يفرق بين نموذجين في العمران البشري:

    1       - العمران الحضري: المدن 2 - العمران البدوي: البادية و الريف.

    أما في البادية فإن الوازع يكون طبيعيا و بسيطا، أما في العمران الحضري (المدينة) يكون معقدا و مركبا على غرار الحياة السائدة، لكن هذا الوازع سيختلف سواء في البادية أو المدينة باختلاف نوع العدوان، عدوان الأفراد بعضهم على بعض داخل المدن أو أحياء البدو أو عدوان جماعات على أخرى، حيث يقول" فأما في المدن و الأمصار فعدوان (الناس) بعضهم على بعض فيدفعه الحكام و الدولة، أما أحياء البدو فيزغ بعضهم عن بعض مشايخهم و كبارهم بما وقر في نفوس الكافة لهم، من الوقار و التجلية  و لا يصدق دفاعهم و ذودهم إلا إذا كانوا عصبية و أهل نسب " (3).

     

    (1) الجابري محمد عابد: فكر إبن خلدون: العصبية و الدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي...مرجع سابق، ص 164.

    (2) نفس المرجع ... ص 164.

    (3) ابن خلدون، أبو زيد عبد الرحمن بن محمد: مقدمة العلامة ابن خلدون، بيروت دار و مكتبة الهلال، 1988.

    -         1 – االعصــــــــــبية:

    إن شأن العصبية عند إبن خلدون خطير للغاية؛ و لكنه على الرغم من اعتماده عليها في تفسير حوادث التاريخ الإسلامي كله، فإنه لا يتناولها بالدراسة إلا من جانب واحــــد،الجانب الذي يهمه في الدرجة الأولى ألا و هو مفعولها السياسي،  و من هنا كان ما يهم إبن خلدون فيها هو النتائج السياسية التي تترتب عليها، أي تلك المرحلة التي تصبح فيها العصبية عبارة عن " إتفاق الأهواء على المطالبة " (1).

    فاصطلاحيا كلمة عصبية ليست من المصطلحات التي ابتكرها إبن خلدون، فقد كانت شائعة الاستعمال في اللغة العربية، خاصة بعد الإسلام الذي صرف معناها إلى الدلالة على التنازع و الفرقة و الاعتداء بالأنساب و ذلك في مقابل الدين الذي يدعو إلى الوحدة و التآخي و تألف القلوب؛ أما المعنى فقد ورد في لسان العرب أن العصبية هي أن يدعو الرجل إلى نصره عصبته و التألب معهم على من يناوئهم، ظالمين كانوا أو مظلومين؛ أما ابن خلدون فتارة ما يستعمل العصبية بمفهوم الرابطة القبلية و تارة بمفهوم الجماعة البدوية، فالعصبية هي مشتقة من العصبة و التي تعني الجماعة و ليس مطلق الجماعة، بل التي تتكــــــــــــــــــــون من " أقارب الرجل الذي يلازمونه ". فالعصبة تقوم أساسا على القرابة أولا و الملازمة ثانيا أي الأشخاص الأقارب الذين يقطنون نفس الأرض.

    باختصار فإن العصبية تعني " تلك الرابطة الاجتماعية، السيكولوجية، الشعوريــــــــــة و اللاشعورية معا، تربط أفراد جماعة ما قائمة على القرابة ربطا مستمرا يبرز و يشتد عندما يكون هناك خطر يهدد أولئك الأفراد " (2).

     

     

    (1) الجابري محمد عابد: فكر إبن خلدون: العصبية و الدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي... مرجع سابق، ص 166.

    (2) نفس المرجع، ص 167.

          ففي المجتمع القبلي لا تتحدد مكانة الشخص في المجتمع القبلي إلا داخل عصبة، فأما خارجها فهو يفقد هذا الكيان تماما، إن الأساس الذي تقوم عليه الرابطة العصبية هو المحطة المشتركة التي تشكل فيها أمور المعاش العنصر الرئيسي الفعال، فالمصلحة المشتركة إنما تتأطر فقط ضمن العلاقات الطبيعية هذه، علاقات النسب أو فيما معناه و بذلك فــــالعصبية هي اقتصادية الغاية في النهاية.

    -         2 - العصبية و الملك:

    إن كان المحرك الأساسي للعصبية هو المعاش و بالتالي العامل الاقتصادي، لكن كيف تتنقل هذه العصبية في لحظة من اللحظات من محرك للمعاش إلى المطالبة بالملك أو بالسلطة السياسية و بالتالي تملك الدولة؟

    ابن خلدون يقدم جوابا بسيطا لهذا السؤال الخطير حيث " الغاية التي يجري إليها العصبية هي الملك (1)، فالملك غاية طبيعية للعصبية، ليس وقوعه عنها باختيار، إنما هو بضرورة الوجود و ترتيبه (2).

       إن الهدف الطبيعي للعصبية هو الملك، و الهدف الطبيعي للعصبيــــــــــــــــة و بالتــــــــــــــــــــــــالي للملك (السلطة السياسية) هو الثروة حيث يقول (إن الجاه مفيد للمال)، فالحافز الحقيــــــــــــــقي للامتداد العصبي هو الحوافز الاقتصادية.

    أما الملك أو الدولة فعمرها مرتبط بالأطوار التي تمر عليها العصبية:

    1-  طور التأسيس و البناء.

    2-  طور العظمة و المجد.

    3-  طور الهدم و الاضمحلال.

     

     

    (1)الجابري محمد عابد: فكر إبن خلدون: العصبية و الدولة: معالم نظرية خلدونية في التاريخ الإسلامي...مرجع سابق، ص169.

     (2) نفس المرجع ... ص169

           إن ما نستنتجه بصفة مختصرة جدا في الفكر الخلدوني في تفسيره للاجتماع البشري و امتداداته السياسية، الاقتصادية و الثقافية للمجتمعات العربية، هو أن هذا الاجتماع يستوجب وجود وازع، و هو في الأساس رابطة سيكولوجية اجتماعية قائمة على القرابة و العيش المشــترك، و هو ضروري و تمليه الطبيعة البشرية بصفة عامة، الوازع يؤدي إلى ظهور العصبية (عصبية عامة و عصبية خاصة)؛ فهدف هذه العصبية هو تبسيط المعاش و خلق الثروة (الجاه مفيد للمال)، هذه العصبية تسير بطريقة آلية إلى الملك و امتلاك السلطة السياسية و الوصول إلى تأسيس الدولة، و لهذه الدولة عمر معين عبارة عن أربعة أجيال ثم تضمحل و تتأسس على أنقاضها عصبية دولة أخرى.

    إن أهم استنتاج يمكن أن نستنتجه هو محاكاة ابن خلدون إلى درجة كبيرة النظرية الماركسية الحديثة في تحليلها للبناءات الاجتماعية  و دوافعها، حيث يؤكد على أن المعاش أو الاقتصاد بلغة العصر و المال و الثروة و الرفاه هو المحرك الأساسي للعلاقات الاجتماعية و الاقتصادية و بذلك يصح بتسميته " الإله المستتر ".

     

     

     

     

     

     

     

     

     

    -         ب – المبحث الثاني: المدرسة الاستعمارية: (1).

    على الرغم من ارتباط هذه المدرسة حسب تسميتها بالحقبة الاستعمارية الأوروبية للمغرب العربي، التي دشنت ابتداء من 1830 باحتلال الفرنسيين للجزائر و ما انجر عنها من تداعيات مجتمعية، فالصفة (الكولونيالية) هي التعبير الأكثر ملائمة للبحوث الاجتماعية التي أنجزت في هذه الفترة و في هذه المنطقة من (1830-1962).

          فكما قال المفكر إدوارد سعيد حول الاستشراق " إن الباحث كان يسير قبل العسكري خلال الحقبة الاستعمارية "(2)، بلغ هذا الطرح أوجه في الدراسات الإثنولوجية و الإثنوغرافية و التي اعتبرت دائما كعلم استعماري (خلق من طرف المستعمر لتثبيت الإســـتــــــــــعمار) (3)؛ فعلى غرار البحوث الميدانية الإثنوغرافية الأولى من طرف العسكريين البريطانيين الأوائل على غرار النقيب كوك، كان الدارسين  الأوائل الذين استعملوا المنهج الإثنوغرافي، تجسدت في الدراسات المونوغرافية الأولى التي قام بها الضباط الفرنسيين خاصة من خلال المكاتب العربية (Les bureaux Arabes).

    فغالبا ما كانت هذه المكاتب متكونة من ضباط فرنسيين و بعض الإداريين قاموا بدراسات مونوغرافية وصفية للعديد من المناطق، هذه الدراسات ساهمت بشكل كبير جدا في تثبيت أقدام الاستعمار الفرنسي في هذه المناطق؛ إن أكبر مثال على هذه الدراسات، الأعمال التي قام بهـــا لاتورنو و حانوتوHanotaux (A) et Latourneux (A))

     

     (1) ارجع إلى العمل القيم حول المسألة: ارجع في هذا الصدد إلى:

    Barque. J  1998 : Cent vingt-cinq ans de sociologie Maghrébine. In : Opera minera 2 : Histoire et Anthropologie du Maghreb … Op cit.

    (2) ارجع : إدوارد سعيد: الإستشراق، المعرفة، السلطة، الإنشاء، نقله إلى العربية كمال ابو ديب، بيروت، مؤسسة الأبحاث العربية، 1981.

    (3) حول مسألة الانثروبولوجيا و المد الاستعماري ارجع خاصة إلى عالم الانثروبولوجيا الفرنسي جون كوبونس خاصة  عمله:

    Copans. J : Anthropologie et Impérialisme. Paris, Maspero, 1975.

      

    مـــن خلال دراستهم و وصفهم للمجتمع المحلي القبائلي كما سمـــوه (الأعراف ، العادات و التقاليد) فأدولف حانوتو (1814-1897) هو جنرال في الجيش الفرنسي، هذا زيادة إلى أعمال إميل ميسكواري (Masquaray .E ) (1) حول السكان البربر المستقرين في الجزائــــــــــــــــر (قبائل، الشاوية و بني مزاب)، أما في المغرب الأقصى فقد كان روبرت مونتاقن(Montagne .R ) (2) يمثل بحق رائد هذه المدرسة في المغرب الأقصى بدون منازع، فانتقل من ضابط في البحرية الفرنسية إلى باحث إثنولوجي. لقد فصــــل جاك بارك في مقاله السالف الذكر " مئة و خمسة و عشرين سنة من علم الاجتماع في شمال إفريقيا " دور المدرسة الكولونيالية في بلورة الدراسات السوسيولوجية حول المغرب بكل التفاصيل، و لكن ما يهمنا بالدرجة الأولى في هذه المدرسة هو الكيفية،  الطريقة و النتائج المتحصل عليها في مقارباتها لموضوع بحثنا هذا، و إسهاماتها الـــنظرية حوله، و ما هي جدية المناهج البحثية المطبقة من طرفها؟

     

     

     

     

     

     

    (1) Masqueray. E : Formation des cités chez les populations sédentaires de l’Algérie : kabyles du Djurdjura, Chaouia de l’auras, Beni Mezab. Paris, Leroux, 1886.

    (2) Montagne. R : Les Berbères et le makhzen dans le sud du Maroc. Casablanca, Afrique orient, 1989.

    -         1 - إسهامات المدرسة في الحالة الجزائرية:

    إن إسهامات هذه المدرسة في الحالة الجزائرية كانت كبيرة، لكن سوف نحاول أن نكتفي فقط بالأعمال التي كان لها أثر على إشكالية المجتمع و السلطة السياسية أو البنى الاجتماعية و السياسية في الجزائر و مساهمتها في بلورة نظرية معرفية حول الموضوع، فالانطلاقة الفعلية للدراسات السوسيولوجية الكولونيالية كانت امتداد للسياسات الاستعمارية وهذا من خلال التركيز على السكان المستقرين من ذوي الأصول البربرية (سكان القبايل) بصفة أدق (1)، من خلال البحث حسبهم على الوحدات المستقرة البربرية التي ظنوا أنها سوف تكون أقل معارضة للامتداد الاستعماري، من خلال تشبيهها بالنموذج القبلي الروماني القديم و المندثر و محاولة تعميمه؛  بذلك يظهر إلى الوجود العمل السوسيولوجي الذي قام به لاتورنو و حانوتو (القبائل و الأعراف القبائلية) فقد قاموا بعمل متكامل و مرجعي حول المجتمع المسمى القبائلي، أين كان النموذج القبايلي آنذاك هو النموذج الخالص للمجموعة التقليدية المبنية على التضامن التقليدي و الاقتصاد المبني على الاكتفاء الذاتي؛ فقد كان هذا النموذج هو المثال الذي استعمله أيميل دوركهايم في أطروحة دكتوراه التي أنجزها سنة(1893) في تقسيم العمل الاجتماعي(2)، أين قسم المجتمعات إلى نموذجين أساسيين : مجتمعات التضامن الآلي و مجتمعات التضامن العضوي:

     

     

     

    (1) سكان القبايل حاليا هما: ولايتي تيزي وزو و بجاية و جزء صغير من ولايات سطيف، برج بوعريرج، البويرة، بومرداس.

      (2) Durkheim E : de la division du travail social. Paris édition, Alcane, 1893

    - مجتمعات التضامن الآلي (Société de solidarité Mécanique): و هي المجتمعات البسيطة الغير المركبة، أين يكون تقسيم العمل فيها بطريقة بسيطة و غيـــــر مركبة، أي تلك المجتمعات التي لم تعرف بروز الفردانية و لم تعرف مسار للتصنيع و لم تعرف مسار لظهور الدولة الحديثة، و أحسن مثال على ذلك المجتمع الأمازيغي القبائلي.

    مجتمعات التضامن العضوي (Sociétés de Solidarité organique): و هي المجتمعات الأوروبية الغربية و التي عرفت تقدما في تقسيم العمل الاجتماعي، من خلال التخصص الوظيفي في المجتمع و ظهور مسار للتصنيع و منطق الدولة الحديثة، و خاصة تلاشي مفهوم الضمير الجمعي (conscience collectif).

    إن أهم شيء على الإطلاق في مساهمة لتورنو و حانوتو في الانثروبولوجية السياسية المغاربية هو استعماله لمفهوم" اللف " أو " الصف " عند سكان القبايل، و هو تقسيم ثنائي على مستوى المدشر أو العشيرة أو القبيلة، نشأ من خلال تحالفات لا علاقة لها بانتماء الأشخاص إلى فرع من فروع النسب و هو ما سوف يكون له تأثير بالغ في بلورة و نشأة التحليل الانقسامي (L’analyse segmentaire) كما سوف نبينه لاحقا.

    إن العمل الثاني و المرجعي لهذه المدرسة حول الجزائر هو العمل الذي نشره إميل مسكواري سنة 1886 " نشأة الحواضر لدى السكان المستقرين بالجزائر: القبائل- الشاوية- بني مزاب ". حيث أكد مسكواري أن بنية التحالفات في هذه المناطق مبنية على المنطق القبلي، أين يكون للصلحاء أو الأئمة دور أساسي في تحقيق المصالحات مبررا أن الكيان القبلي في تلك المناطق لا يحقق الالتحام الضروري للدفاع عن الذات إلا في حالة بروز خطر خارجي.

    هذا من ناحية أهم الدراسات السوسيولوجية التي إرتبطت بموضوع دراستنا خلال الحقبة الاستعمارية (المدرسة الاستعمارية) أما على مستوى الدراسات التاريخية إبان هذه الحقبة، فيعتبر أيميل قوتيه (Gautier .E )، خاصة في مؤلفه القرون المظلمــة للمغرب العربي  أين قام بإعادة طرح من جــــديد الفكر الخلدوني، المتعلق بشقه الخـــــــــاص بتحليل سبب التدهور الحضري للمغرب العربي بصفة عامة و في وصفه للهجرة العربية الكبرى للمغرب، هجرة قبائل بنو هلال و بنو سليم من اليمن إلى صعيد مصر ثم إلى المغرب العربي ( ليبيا- تونس- الجزائر والمغرب الأقصى بصفة أقل) سنة،1052 في عهد الدولة الفاطمية في مصر؛ حيث يقول على أن الحدث الجلل الذي حدث بشمال إفريقيا خلال الألف سنة الأخيرة، هو هجرة هذه القبائل العربية و تحطيمها للبناءات الاجتمـاعية، الاقتصادية و الثقافية السائدة في المغرب العربي، هـــو بمثابة الصدمة السوسيولوجية الكبرى على المغرب العربي التي كانت لها التداعيات العظيمة على هذا المجال الاجتماعي  لمدة ألف سنة (1).

    باختصار يمكن تلخيص تحليل هذه المدرسة الفكرية في دراسة المجتمع الجزائري من خلال تحليل المعطى القبلي كتنظيم مورفولوجي و ما كان لها من إسقاطات على البناءات الاقتصادية و السياسية و إهمالها للأنساق الأخرى في هذه التكوينات.

    (1)طبعا نحن ضد هذه المقاربة التي كانت ذاتية كليا، بل أخطر من ذالك كانت عنصرية و عرقية بيلوجية حيث يقول : " منذ القدم إلى غاية القرن العشرين ضل المغرب العربي منقسم بين كائنين بيولجيين متصارعين و متطاحنين الرحل و المستقرين، الذي يمارس الترحال هو شيوعي في تصرفاته فوضوي سياسيا و يفضل اللا-نظام بشكل غريزي، فالرحل هم العرب و المستقرين هم البربر" إرجع إلى :    

     Gautier .E.F: Le passé de l’Afrique du nord : les siècles obscurs du Maghreb. Paris, Payot, 1927.-

     من الأعمال الفرنسية التي درست المسألة و كانت أقل تطرفا من قوتييه العمل الذي قام به المؤرخ شارل أندري دو جوليان خاصة في مؤلفه:

    - جوليان شارل أندريه : تاريخ افريقيا الشمالية. تعريب محمد مزالي و البشير بن سلامة. ط 5، تونس، الدار التونسية للنشر، 1983.

    - أما ابن خلدون فهو بريء من هذه التحليلات و ان كانوا قد نسبوا هذا التحليل إليه من خلال مقولته " إدا عربت خربت " ارجع إلى :

    - ابن خلدون، أبو زيد عبد الرحمن بن محمد : تاريخ ابن خلدون المسمى بكتاب العبر و ديوان المبتدأ و الخبر ايام العرب والعجم و البربر و من عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، بيروت، دار الكتاب، 1968.

    2  – إسهامتها في الحالة المغربية :

            إن الحالة المغربية تختلف اختلافا جذريا على الحالة الجزائرية و التونسية، و هذا راجع بالدرجة الأولى إلى طبيعة الوجود الفرنسي في هذا البلد، فإن كان التواجد الفرنسي في الجزائر عبارة عن استعمار استيطاني جرف كل البناءات التي كانت موجودة، فإن الوجود الفرنسي في المغرب ابتداء من 1912، عبارة عن حماية  في ظل نظام ملكي.

    نلاحظ أن أهم رواد هذه المدرسة على مستوى الدراسات السوسيولوجية حول المغرب ، الأقصى القريبة من موضوع بحثنا هذا، بدون منازع هي الدراسة التي قام روبرت مونــــــــتاقن   يتضح في تصوره للحياة السوسيو-سياسية للمغرب الأقصى من خلال دراسته لقبائل منطقة سوس بالجنوب المغربي، و الموسومة ب (البربر و المخزن)؛ إن ما يهمنا هنا ليس الغاية السياسية للمستعمر الفرنسي، هذا من خلال محاولته اختراق و فهم القبائل في المغرب الأقصى لتسهيل عملية الاستعمار، على غرار ما كانت عليه في الحالة الجزائرية، فهذه الدراسة يمكن أن نضعها في خانة الدراسات الاثنولوجية و الانثروبولوجية السياسية للمــــــــغرب العربي، و هذا من خلال استعماله للمنهج الاثنوغرافي، حيث قام بالإقامة في هذه القبائل و شارك و لاحظ الحياة اليومية لهذه القبائل من طقوس و عادات و تقاليد ومواسم...الخ، فيـــــمكن أن نعتبر أن هناك جدية علمية في البحث، و قد نشر في المقام الأول في مجلة سنة علم الاجتماع (L’année sociologique:1930) و هي المجلة التي كان ينشر فيها مرسال موص.

    أما الدراسة، فقد انطلق روبر مونتاني من تصور مسبق لنموذج القبيلة الأوروبية القديمة و التي اندثرت بعد سيطرة الإمبراطورية الرومانية، فهذه القبائل لم تكن تمارس الترحال بل كانت مستوطنة بالأرض و زراعتها و متشبثة بالاستقلال عن كل حكم مركزي؛ فهي بمثابة المثال عن الجمهوريات الصغيرة المستقلة المتحدة فيما بينها حول الملكية الجماعية للأرض؛ و بذلك يشرح مونتاقني أربعة (4) مراحل يمر بها هذا الاتحاد القبلي. فيؤكد أن المرحلة الأولى هي مرحلة الجمهوريات البربرية، تتميز حسبه بسيادة الديمقراطية و المساواة بين عناصر القبيلة بالرغم من انقسام اللف (Leff) (الاتحاد القبلي) إلى قسمين أو حلفين متعارضين يدخلان في صراع، إلا أن هذا الصراع يختفي كلما تعادلت كفة الحلفين المتعارضين و يبدأ التوازن من جديد وهذا لضمان استمرار الحياة القبلية، و هو ما يسميه بالفوضى المنظمة (L’anarchie ordonnée)، ففي هذه المرحلة تكون مؤسسة الجماعة هي التي تــــــــحكم و تقرر و (الأمغار) يتكلف بتنفيذها (جمهورية ديمقراطية)؛ إن الاتحاد القبلي (اللف) الذي يشرحه و يؤسسه مونتاقني هو اتحاد مبني على أساس توازن القوى القبلي، أي القبيلة التي تنجح و تفوز في الحرب تتصالح و تتعادل من القبيلة الأخــــــــــــــــــــرى، و هكذا يستمر التوازن و الاتحاد القبلي؛ فيؤكد على غرار الطرح الخلدوني أن ما يعزز الإتحاد بين القبائل ليس الجد المشترك (الوهمي أو الحقيقي) و إنما هو التعايش في أرض و بيئة  واحدة (الرابطة الإنسانية الايكولوجية)(l’Ecologie Humaine).

    أما المرحلة الثانية فتتم عندما يتغلب تنظيم قبلي على أخر أو (قبائل أخرى)، و يمتلك السلطة (الأمـــــــغار) الذي كان ينفذ ما اتفقت عليه سلطة الجماعة (اللف) القبلي و يصبح في يده السلطة التشريعية التي كانت في يد الجماعة و السلطة التنفيذية (سلطة الأمــــــغار) و بذلك يبدأ الاستبداد و يتهاوي التوازن القبلي السائد، أما جوهر هذا التغيير فيرجعه هذا الأخير إلى تدخل المخزن (الدولة) و بهذا يصبح الأمغار أداة في يد الدولة.

    إنما يعاب على دراسة مونتاقني، هو تعامله مع القبيلة كما يتعامل المنقب الأركيولوجي مع الحفريات، كما قام بتعميم خصوصيات محلية على المجتمع الكبير، مما أدى إلى خلط و تشويه الواقع .

    -         3-المدرسة الاستعمارية و الحالة التونسية:

      كما أسلفنا الذكر فإن البحوث الميدانية الاستعمارية الفرنسية في المنطقة كانت امتداد كرونولوجي للمد الاستعماري للمنطقة، فـــــالأهمية القصوى قد أعطيت للحالة الجزائرية، و لكن بعد تثبيت الاستعمار في هذا القطب انتقلوا لاحتلال الجارة الشرقية تونس؛ و بذلك قاموا بـــــــتطبيق نفس الخطوات المتبعة في دراسة مداخل هذا المجتمع، مع التركيز على فرضيات البحث على المجموعات الاثنية الأقلية على غرار الأقليات البربرية في الجزائر؛ و بذلـــــــــــــــــــــك وجدت الدفعة الأولى من الباحثين الفرنسيين أقصى الجنوب التونسي خير مثال على ذلــــــك، فــــقاد هذا التوجه الباحث الاديولوجي الفرنسي المعروف برتالون (Berthallon) و هو الذي قال " لقد ارتكبنا خطأ قاتلا تجاه هذه  المنطقة، هو نفس الخطأ المرتكب سابقا اتجاه منطقة القبايل بالجزائر، فقد وجدنا بين قابس و ليبيا نوعا من الدويلة البربرية شبه الــــــــمستقلة، فكان من مصلحتنا أن نحافظ على تميزها و استقلاليتها، و عوضا عن ذلك فقد اعتبرناها داخلة تحت نفوذ الباي، و بفضلنا نحن تعربت الآن هذه المنطقة و تتوحد مع الأيلة التونسية توحدا لا يعارضه إلا تدخلنا عبر مبدأ فرق تســــــــــــود" (1).

    يكاد جاك بيرك ينفرد مرة أخرى في طرح مقاربة مناهضة لـــــلمدرسة الاستعمارية في شمال إفريقيا ، حيث يؤكد أن (الجيل الأول الرومانسي) حسب تعبيره لم يتخلص من الإرث الكولونيالي الثقيل بمفاهيمه و فرضياته و أفكاره المسبقة، ذلك أن مهمات البحث القصيرة، و الجهل بالتاريخ المحلي و ضعف المعايشة لم تستطع بناء بدائل متينة، إذ ظلت خلفيات الاستشراق و توهم المقررين الاستعماريين تؤثر في أغلب التحــــــــــــــــــــــــــــليلات

     

    (1)  Berthallon. A: Etude géographique et économique sur la province de l’araad. Revue Tunisienne, 1894.

     الخارجية التي أرادت التواصل مع هذا الموروث و هـــــــذا المجتمع (1).

    فبذلك نلاحظ أن الأسس الابستيمولوجية و المعرفية للأنتروبولوجيا الكولونيالية كانت هشة، ابتداء من اختيار موضوع إلى ميدان البحث، وصولا إلى المفاهيم و النظريات المستخلصة من هذه الدراسات، و بالتالي لا يمكن بأي حال من الأحوال أن تكون مجالا للاستناد و الارتكاز الجيد في الدراسات الحديثة (2).  

      لقد أخذ نقد الانتروبولجيا الكولونيالية مداه على يد جورج بالونديي، و هو ما أدى به إلى اقتراح " علم الاجتماع الاستقلالي " ردا على " علم الاجتماع الاستعماري " (3).

     

     

     

     

     

     

     (1) ارجع إلى: محمد نجيب بوطالب.... نفس المرجع ....ص41

    (2)  ارجع إلى أعمال عبد الوهاب بوحديبة  حول مسألة  نزع الاستعمار في إفريقيا ، حيث أكد أن جاك بارك هو رائدها في افريقيا البـــــــــــــــــــــــــــــــيضاء، و جورج بالوندييه هو رائدها في إفريقيا السوداء، ارجع الى مقاله :

     Bouhadiba (A) : « A propos d’une théorie de la colonisation » dans : A la recherche des normes perdues.  Tunis ; Maison tunisienne de l’édition, 1973.

    Leclerc. G : anthropologie et colonialisme, essai sur  l’Histoire de l’africanisme. Paris, Fayard, 1972. (3)  ارجع إلى العمل الأساسي لجورج بالونديه حول الموضــــــوع :

    Balandier. G : contribution à une sociologie de l’indépendance,  Caliers internationaux de  sociologie (N 1952) ; et aussi in

    Balandier. G : sens et puissance : les dynamiques sociales. Paris, Éditions, PUF, 1971.

     

    -         ج – المبحث الثالث: المدرسة المدرسة الانقسامية.

           إن ظهور المدرسة أو النظرية الانقسامية أو الجــزئيـة "La théorie segmentaire" في الانتروبولوجيا و علم الاجتماع السياسي، جاء نتيجة تلاقح بين المدرسة الفرنسية في علم الاجتماع ممثلة في أيميل دوركهايم من جهة و رواد الإثنولوجيا و الانتروبولوجيا البريطانية و بشكل أساسي ادوارد  إيفنس بريتشارد (Evans-Pritchard. E.E)؛ فــــإن كان مفهوم التحليل الجزئي أو المجتمعات الجزئية أو الانقسامية استعمل لأول مرة من طرف دوركهايم في أطروحته في تقسيم العمل الاجتماعي سنة 1893، و هذا بالاستعانة بأعمال لاتورنو و حانوتو كمرجعية لنموذج المجتمعات الجزئية (المجتمع القبائلي) كما ذكرنا سابقا، فإن الاستعمال الفعلي لهذا النمط من التحليل كان من طرف ايفنس بريتشارد و هو الناشر لأعمال  دوركهايــــــــم باللغة الانجليزية في بريطانيا؛ فمن خلال المعاينة و البحث الميداني لأمثلة من المجتمعات الانقسامية، و في هذا الصدد استطاع ايفنس بــــــريتشارد من خلال دراسته لقبائل النوير (The nuer) في جنوب السودان أن يوظف أعمال دوركهايم في اكتشاف النموذج المثالي لمـــــــــــــــــجتمع انقسامي (1)؛ بذلك تمكن من أن يمد الانثروبولوجيا السياسية بمنظومة نظرية و مفاهيمية متكاملة لم يتجاوز دوركهايم فيما قبل من وضع الخطوط العريضة لها فقط (2).

    إن دوكهايم يؤكد على أن المجتمع الانقسامي ذو التضامن الآلي يقوم على مبدأ تشابه بين كيانات مستقلة و قائمة بذاتها إذ يقول: " ليكون التنظيم الانقسامي مــكنا

     

       (1) CF : Evans-Pritchard. E: les Nuer. Paris, édition Gallimard, 1968. Edition Originale (The nuer) ,1940.

    (2) ارجع إلى العمل القيم حول مفهوم الانقسامية و تصــــنيفتها إلى:

    بن سالم ليليا و آخرون : الأنثربولوجيا و التاريخ : حالة المغرب العربي ، ترجمة:عبد الأحد السبتي و عبد اللطيف الفلق- دار توبقــال ، الــــــــــــــــــــــــدار البيضاء ،1988.

     ينبغي أن تتشابه القسمات و بدون هذا التشابه لا يمكنها أن تتحد و أن تتباين في الوقت نفسه، إذ بدون هذا التباين سيضيع بعضها في بعض و ينتهي بها الأمـر إلى التلاشي"(1)؛ أما ايفنس بريتشارد فيشرح الانقسامية من خلال نموذج قبيلة النوير.

    تعيش قبائل النوير في أعالي النيل و تعتمد على زراعة الذرة و تربية الأبقار لضمان نوع من الاكتفاء الذاتي، و هو ما يساعد بذلك على تحقيق مجتمع متساوي لا يؤمن بمبدأ تراكم الرأسمال المادي، فقد حدد ايفنس بريتشارد أهم معالم النظام الاجتماعي الانقسامي لهذه القبائل، فتقسيم العمل بسيط جدا لا يتجاوز حد العلاقات العائلية، حيث تشكل بنية القرابة بنية اجتماعية أساسية  لدى النوير، و داخل هذه البنية تعتبر القبيلة وحدة عائلية سياسية و هي الركيزة الأساسية للمنظومة الانقسامية (2).

    إن نظام السلالة الأبوية يمثل أساس نظام القرابة الذي يعتمد عليه التنظيم السياسي العائلي لدى النوير، فينتمي الأفراد في المستوى الأول إلى القبيلة (Tribu) ثم إلى العشـــيرة le clan)) و أخيرا هناك مجموع الإخوة الأحياء أو الأخوات الذين تربطهم عــــــــــــــــــــــــــلاقة نسب (3).

     

     

     

     

     

    (1) Durkheim. E : de la division du travail social… op . cit.

    (2) Evans-Pritchard. E : les Nuer…op cit p 141.

     (3)نفس المرجع.........ص142

    تعبر هذه البنية مجزئة لأنها تتألف من فئات عديدة متداخلة فيما بينها و تتمثل أهم ميزة لهذه البنية، في العلاقات التي تربط بينها و التي تعين بالنسبة للفرد، عددا من مستويات الانتماء تتناسب مع مستويات الانقسام الموجـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــودة داخل القبيلة التي ينتمي إليـــــــــــــــــــها، " يبرز انتماء فرد ما إلى قبيلة معينة في إطار علاقتها بقبائل أخرى لكن هذا الإحــــــــــــــــــــــــساس يتلاشى إذا ما اقتصرنا على اعتبار علاقة القسمة التي ينتمي إليها بالقسمات المشابهة لهـــــــــــا داخل القبيلة الواحدة " فعندما يحدث صراع بين قبيلة من قبائل النوير و أخرى من قبيلة الدينكا المجاورة، يهب مجموع النوير لمحاربة هذه الأخيرة لكن عندما يحصل نزاع بين عشيرتين من النوير يكون رد فعل الأشخاص حسب انتمائهم، و هو ما سماه ايفنس بريتشارد بنزعتي الانشطار (تعارض القسمات الاجتماعية فيما بينها) و الانصهار (تحالف الفئات على مستوى نفس العشيرة لمواجهة أي خطر خارجي)؛ و الأهم هو أنه ليس لمجتمع النوير جهاز سياسي متخصص (الدولة) ليسير و يفض النزاعات سواء بين الأشخاص أو المجموعات الاجتماعية.

    فقد أكد ايفنس بريتشارد الموسوم بـ: النظم السياسية الإفــريقية (1) أن النظم السياسية الأفريقية تنقسم إلى قسمين أساسين:

    - المجتمعات ذات حكم مركزي، قوة عسكرية، جهاز إداري و آخر قضائي (دولة حديثة).

     

     

     

       Evans-Pritchard. E.E et Fortes .M : systèmes politiques africaines. Paris, PUF, 1964.

     

     

    - المجتمعات بدون دولة مثل قبائل النوير حيث تشكل البنية السلالية إطار للنظام السياسي و ليس هناك تفريق (une différentiation) بين البنية الاجتماعية و البنية السياسيــــــــــــــــة، و هذا من خلال غياب جهاز مستقل من إدارة، قضاء و سلطة إكراهية (جيش أو شــرطة). و من بين الدارسين الذين أثروا في هذه المقاربة و النظرية و أعطى لها قيمة مضافة، هناك العمل الذي قــــــــــــــــــــام مـــــــــــــــــارشال سالنس سنــــــــــــــــــة ( Marshal Sahlin) و هذا من خلال دراسة بعض القبائل الرحل في شمال الصومال،  بذلك دفع شروط معينة يجب أن تتوفر في المجتمع حتى يكون انقسامي:

    أ- أن يكون مجتمعا ذو نسب أحادي.

    ب - أن يكون مجتمعا مجزأ (مما يحتمل مبدأ الانشطار).

    ج‌-      أن يتجسد الانشطار على مستوى المجال الترابي أي لا يكون مبني على الترحـــــــــال و إنما الإقامة في مجال معين.

     (1)

    د -  مبدأ التعارض و التكامل (الانصهار و الانشطار).

    ه - مبدأ النسبية البنيوية(la relativité structurale) فالسلالات هي موسمية  تظهر في زمن الصراعات و الزعيم في فترات الحرب ليس هو تلقائيا في فترات السلم (1).

     

     

    (1) ارجع إلى ليليا بن سالم... نفس المرجع. ص16.

     

    -         1 - النموذج الانقسامي بالمجتمعات العربية و المغاربية:

    لقد ظهرت النظرية الانقسامية و التحليل الجزئي من خلال دراسة إيفنس بريتشارد لقبائل النوير في دولة جنوب السودان حاليا (1)، كان في السابق تحت راية دولة السودان الموحدة، و هو مجتمع إفريقي غير عربي و غير مسلم، و هو ما سوف يكون له دور أساسي في فهم عدم انتشار هذا التحليل بصفة كبيرة في المناطق العربية الأخـرى(خاصة بشبه الجزيرة العربية)، إلا في مناطق ضيقة بالمغرب العربي و خاصة بالمغرب الأقصى.

    و بذلك شكلت المدرسة الانقسامية، إغراء كبير على الباحثين في ميدان المجتمع القروي بالمغرب الأقصى فقط كما يقول عبد الله العروي (2) في هذا الصدد، فقد كان من المحتمل أن تتركز الدراسات الأنثروبولوجية للمنطقة العربية على البعد الانقسامي لهذه المجتمعات، إلا أنه تم إغفال هذه النظرية و دراستها فقط من خلال الاستشراق، و هذا بالتأكيد على  المعطيات و البعد الإسلامي (الإسلام) بالدرجة الأولى. فرغم استناد الانقساميون بالمثل العربي الشائع"أنا ضد أخي،أنا و أخي ضد أبناء عمي، أنا و أخي و أبناء عمي ضد الغريب" إلا أنا المقاربة الإنقسامية كانت مغيبة بالمغرب العربي، ما عدا بالمغرب الأقصى (3).

     

     

     (1) الآن دولة جنوب السودان هي دولة مستقلة.

    (2) ارجـــــع المقدم من طرف عبدالله العروي في العمل الجماعي المترجم من اللغة الفرنسية الى العربية :

    العروي عبد الله : نقد الأطروحة الانقسامية. في بن سالم و آخرون: الأنثروبولوجيا والتاريخ: حالة المـغرب العربي...مرجع سابق ، ص127-131.

     (34) حتى إفينس بريتشارد قام بدراسة الطريقة السنوسية في ليبيا و لكن ليس في شقها الانقسامي، إرجع إلى :

     Evan-Pritchard. E.E :The sanusi of Cyrenaica. London, exford university press; 1949.    -

     

    فقد كانت مرة أخرى الأنثروبولوجيا الكولونيالية سباقة لدراسة المجتمعات المغاربية من خلال التحليل الانقسامي، و هنا نقصد خاصة العمل المرجعي حول استعمال و تطوير هذه النظرية بالمغرب الأقصى، من خلال أعمال إرنست قيلنر (Ernest Gellner) خاصة في عمله "صلحاء الأطلس" The saint of the Atlas" (1)، فقد أكد غيلنر أن مفهوم الديمقراطية ليست إيديولوجية بل ديمقراطية بنيوية، حيث يرى أن أهم خصائص قبائل الأطلس الكبير هما خاصيتان أساسيتان:

    أ- خاصية بنيوية "انقسامية"

    ب- خاصية تتصل بالموقع " الهامشية "

    1- الهامشية: يؤكد قيلنر أن الهامشية هي أكثر سياسية منها ثقافية فهي تمثل انقسامية من نوع آخر، فالقبائل في المغرب العربي تتميز بحرية ثقافية و سياسية إزاء الحكم المركزي و المجتمع الكلي، فرغم تعلقها بالهوية الإسلامية بشكل عام إلا أنها هي دائمة البحث عن استقلال هوياتي أو قطري وطني (المغرب، الجزائر، تونس...الخ)،  و في هذا الصدد يؤكد قيلنر أن المجتمعات المغاربية باستثناء تونس هي مزيج من المجتمعات، لم ينهض الحكم المركزي فيها بدور يذكر طوال عهد ما قبل الاستعمار (2). لقد انتقد بول بـاسكــــــــــــــــون (Paul Pascon) (3) هذا الطرح  و دافع على فكرة

     

    (1 ) Gellner. E: Saints of the atlas. London, weindefeld, 1969.

    (2) إرجع غلى تحليل الفكر الانقسامي عند ارنست قيلنير إرجع خاصة خاصة إلــــــى عبدالله الحمودي في :

    الحمودي عبدالله : الانقسامية و التراتب الاجتماعي و السلطة السياسية و القداسة، ملاحظات حول أطروحة قالنر. في بن سالم و آخرون: الأنثروبولوجيا والتاريخ: حالة المـــــــــــــــــــــــــــغرب العربـــــي ... مرجع سابق ، 61-86.

    (3)    باسكون بول : التجزء و التراتب في المجتمع القروي المغربي. مجلة الواقع، بيروت، السنة 1، العدد 3، نوفمبر 1981.

     

    الوحدة و التكامل كما فند فكـــرة استقلاليـــة المناطق النائية عن المركز، حيث يقول" إن القبيلـــــــة في تاريخ شمال إفريقيا الحديث (القرنين19 و 20) لم تكن تجزيئية حين نستثني وجود عائلات و أنساب في الأسفل أو وجود سلطة المخزن في الأعلى إلا في المجتمع الصغير و ليس في المجتمع الكبير".- الانقسامية:  تقوم هذه الخاصية على مجموعة من الخصائص و هي:

    - هيمنة النسب الأبوي على المجتمع

    -  مبدأ الانصهار و الانشطار

    -  غياب التراتب الاجتماعي

    - الأهم هو بروز  الفاعلين و بشكل استثنائي و قيامهم بتحقيق التوازنات(الصلحاء).

    فإلى جانب قيلنر اهتم عدد من الانثروبولوجيون الانجلوسكسونيون بدراسة القبائل من خلال التحليل الانقسامي، و هو ما ساعد إلى إعادة النظر في بعض جوانبه و من أهمها أطروحتان، الأولى قام بها د.م هارت  (Hart. D.M) لثلاثة قبائل بالمغرب الأقصى : أيت عطا، بني ورياغل و الدكالة؛ أما الثانية لريمون جاموس (Djamous. R :1977) حول قبيلة أقرعيين بـــــالريف المغربي؛ فحسب ليليا بنسالم فإن كلا الباحثان يبينان أهم عناصر المنظومة الانقسامية، لكنهما يلحان على تجنب أي تعميم قد يؤدي إلى الإفراط فيه إلى إسقاط نفس النموذج على حالات تستدعي تعميق التحليل لأنها لا تعتمد التطور الانقسامي بقدر ما تستوجب إدخال بعض التعديلات، فيؤكد كل من هارت و جاموس و على عكس ايفنس بريتشارد، أنه ليس من الأكيد أن يكون الجد الواحد هو المرجع الوحيد بتعيين أصل القبيلة، فالموقع الجغرافي يؤدي نفس الدور في البنية السائدة لدى قبيلة أقرعيين حيث لا تشكل القرابة إلا إطارا جزئيا تتحدد كل ميزاته بالاعتماد على المبدأ الجغرافي.

    فعلى النقيض من قيلنر و روبرت مونطاني يؤكد جاموس على اختيار الأمغار (الرئيس التقليدي في البناء القبلي الأمازيغي) لأنه أشرف قومه الثروة المادية التي يكتسبها و كثرة الأولاد و النساء و القدرة على الإنفاق و التباهي و الكرم  فــــــــــــــــقد اعتبر جامــوس أن ســـــــــلطة الأمغار ليست ضعيفة بالقدر الذي روجته المدرسة الانقسامية، فصحيح أنها ليست ذات طابع مؤسساتي لكنه فند نظرية قيلنر و التي تؤكد أن العلاقات الانقسامية تنفي وجود علاقات سلطوية، فليس هناك ما يحول دون تواجدهما  (1).

    أما فيما يخص استعمال النظرية الانقسامية في الحالة الجزائرية و الحالة التونسية كانت نوع ما ضعيفة، و هو راجع بالدرجة الأولى حسب رأيي إلى النظم السياسية التي سادت في هذين القطرين بعد مرحلة الاستعمار، فتقريبا في الحالة الجزائرية، الدراسات الانقسامية كانت منعدمة عكس الحالة التونسية التي لم تصل إلى حد الحالة المغربية، و لكن كانت هناك بعض الدراسات التي سارت في طريقة التحليل الانقسامي على غرار أعمال ليسات فالنسي (Lucette Vanlesi) (2) للمجتمع القــــــــــــــــــروي التونسي خــــــــــــــــــــلال القرنين (18 و19)، حيث أثبتت أن الفصائل القبلية التي كانت تشكل آنذاك 50% من مجموع السكان كانت تخضع لتنظيم انقسامي.

    أما في الدراسة الثانية للحالة التونسية فهي الدراسة التي قام بها جون كويزنيه (Cuisinier. J : 1975) في مؤلفه " الاقتصاد و القـــــــــــــــرابة "   (3) مقاربة لعلاقات

     

    (1) CF : Jamous (R) : Honneur et Baraka : Les structures sociales traditionnelles dans le Rif. Paris, édition MSH, , 1981.

    (2) Valensi (L) : Fellah Tunisiens : l’économie rurale et la vie des compagnes aux 18 et 19 siècles. Paris, édition Mouton, 1977.

    (3) Cuisinier. J : Economie et parenté, leurs affinités de structure dans le domaine turc et dans le domaine arabe. Paris-Lahey, Mouton, 1975

    التجانس البنيوي بين النظام الاقتصادي و نظام القرابة" من خلال دراسة مقارنة بين مجتمعيين محليين مسلمين أتراك أناضول و عرب جبال العنصــــــرين في تونس، حيث أنه في تحليله للحالة التونسية يبدو أكثر مرونة، فـــنلاحظ أن هناك نوع من المرونة في تحليله لهذا النموذج في تونس، بسبب وجد نوع من الاستقلال إزاء الحــــــــــــــــــــــــــكم المركزي؛

    فقط سعي في هذا البحث الاثنوغرافي الميداني إلى الكشف عن آليات التنظيم القبلي، فلاحظ أن النزاعات لا تفض عبر نظام المصاهرة أي حسب نظام الانصهار و الانشطار كما هو في حالة قبائل النوير و الريف فحسبه" إن الانقسام لا ينشىء عن تعارض متوازن بين عناصر متكاملة بل عن خيارات و بدائل تعبر عنها الأطراف المتنازعة".

    لقد ساهمت المدرسة الانقسامية في الدراسات الانثروبولوجية السياسية خاصة حول مسألة السلطة السياسية بالمغرب العربي بصفة كبيرة، ومن بين الدراسات المرجعية في هذا الصدد استخدام جون واتربيري التحليل الانقسامي المعتمد على منهجية النمط المثالي الفيبري في السلطة الوراثية على الوضع السياسي الحديث بالمغرب الأقصى القائم على تأثيرات علاقات النسب و العمالة و التحالف في مكانة الزعيم السياسي، كما ظهرت أعمال أخرى تأثرت بدرجات مختلفة بالنظرية الانقسامية مثل أعمال نوقو و ريفي و مور و كليفورد و غيرهم من الدارسين للتحولات السياسية و الاجتماعية لبلدان المغرب العربي الحديثة.

    لقد تعرضت المدرسة و النظرية الانقسامية إلى وابل من الانتقادات من طرف الدارسين السوسيولوجيين و الأنثروبولوجيين للمجتمعات المغاربية و خاصة من طرف : جاك بارك، جون فافري سعادة، عبد الله العروي، الخطيبي...الخ. و من بين أهم الانتقادات الموجهة لها خاصة اختزال الديناميكية السوسيو-تاريخية للمجتمعات المدروسة في البناءات التقليدية (البناء القبلي)، فكما يقول الخطيبي " إن الانقسامية تعاملت مع القبلية تعامل عالم الآثـــــــــار و الحفريات" بمعنى آخر درسوا هذه المجتمعات وهم مهووسين بمفهوم القبيلة، و كأن القبيلة هي المحرك الوحيد و الأساسي للحراك السوسيولوجي بالمغرب العربي المعاصر؟ و في هذا الصدد يكاد ينفرد جاك بيرك مـــــــــــــــــرة أخرى في نقده لهـــــــــــــــــــــــــــــــذا التطور أن " بنيات اجتماعية مماثلة تسقطها الفرضـــية الانقســـامية من أعــالي النيل إلى جبال الأطلس المتوسط" (1)، أي أن الانقسامية في المغرب العربي حاولت تطبيق النظرية التي استنتجت من خلال دراسة قبيلة النوير في السودان و حاولت تطبيقها في المغرب الأقصى" لقد انتقد بارك في بحثه الموسوم " في مدلول القبيلة في شمال إفريقيا"(2)،التسميات القبيلة في هذه المنطقة و أكد على أنها دال بلا مدلول "Signifiait sans signifié".

     بذلك فإن النظرية قدمت إضافة مهمة في مجال معرفة المراتب الاجتماعية التقليدية (قبل الاستعمار) شأنها  شأن علم التاريخ الخلدوني لكنها تجاهلت تاريخ التطور الحقيقي للمجتمعات المغاريية و في هذا الصدد يؤكد منذر الكيلاني بأن الانثروبولوجيا التاريخية وحدها القادرة على تجاوز أزمة الانقسامية لأن بإمكانها أن تحقق التمفصل بين البنيات الاجتماعية و التاريخ، لأنها تتحاشى في دراستها عزل المجتمعات عن سياقها " الاجتماعي و التاريخي" (3).

     

     

     

    (1) Berque. J : Les Structure sociales  du haut Atlas. Paris, PUF, 1955.

    (2) Berque (J) qui est ce qui une tribu nord africaine. Op cit.

    (3) CF à  Kilani. M : La construction  de la mémoire : le lignage et la sainteté dans L’Oasis de El ksar. Genève, édition  LABOR et fiedes; 1992. P 242.

     

     

     لقد تجاهلت الانقسامية في تحليلها لهذه المجتمعات دور الشريعة الإسلامية و حركة الإسلام السياسي في تقديم نموذج جديد للسلطة السياسية، زيادة على تجاهلها لدور الرئيس أو الزعيم داخل القبيلة و الذي أكد عليه ابن خلدون نفسه، (1) و ما له من تداعيات على مستوى حراك الأنظمة السياسية محليا أو مركزيا و لكن يبقى الشيء المهم و الأساسي في هذه النظـرية هو تنكرها لحركة تمأسس السيـاسي (Institutionnalisation du politique) داخل هذه المجتمعات خاصة في المنظومات الحديثة (الدولة و الأحزاب السياسية) بصفة جوهرية و ما لها من دور في انتقال الصراع من داخل هذه البناءات إلى بناءات أخـــــــــــــــــرى و هو ما سوف يكون مجال البحث و التمحيص في دراستنا هذه.

     

     

     

     

     

     

     

     

    (1) ارجع إلى ليليا بن سالم  و آخرون: الأنثروبولوجيا و التاريخ: حالة المـــــــــــــــــــــــــــغرب العربـــــي ... مرجع سابق، ص 38.

     

    - د – المبحث الرابع: المدرسة الماركسية في الجزائر: (1)

    إن المدرسة الماركسية في العلوم الاجتماعية وعلى غرار المدارس الأخـــــــــــرى (المدرسة الكولنيالية و المدرسة الانقسامية)، و التي دُرست من خلالها مجتمعات المغرب العربي، قد ظهرت و تطورت و ازدهرت في بيئة المجتمعات الأوروبية الغربية، فنلاحظ أن الرواد الأوائل لـــلفكر الماركسي و نخص بالذكر هنا كل من كارل ماركس (Karl Marx ) في ألمانيا و فريدريك انجلز (Frédéric Engels) في ألمانيا كلاهما من المؤسسين الأساسيين الأوائل لما سمي  بالفكر الماركسي؛ فــــقد طورا  فكرهما بالاستناد إلى نظرية فكرية مبنية بالأساس على الفلسفة الأوروبية و الأوروبية المركزية و هذا بعد تأثرهما بفلسفة هيقل و فلسفة التنوير و العقد الاجتماعي (سبينوزا و جون لوك، جون جاك روسو، توماس هوبز)؛ حيث أسسوا لــــــفكرهما الفلسفي و السوسيولوجي و الاقتصادي من خلال فكرة المادية التاريخية، فنلاحظ أن ماركس يؤكد على دور البنية التحتية للمجتمعات (البنية المادية و الاقتصادية) هي الأساس و هي القاعدة التي تبنى من خلالها البنى الفوقية الأخرى للمجتمع (البنى القانونية و السياسية) ،  بذلك لفهم البناء الاجتماعي يجب فهم في المقام الأول البنية التحتية و هو يكاد يحصرها في البنية الاقتصادية و علاقات الإنتاج. بذلك قسموا تاريخ تطور المجتمعات الإنسانية على هذه المعطيات (المادية التاريخية)، يتجلى ذلك بصفة أساسية فيما بعد من خلال أعمال إنكيلز، خاصة في عمله الموسوم ب: أصل الأسرة الملكية الخاصة و الدولة و الذي تأثر فيه بأعمال الاثنولوجي لويس هنري مورقان حول المسألة، فنلاحظ أن انجلز يؤكد على المجتمعات البشرية تمر بأربعة  مراحل أساسية مرتبطة بنمط الإنتاج "بــــــــــــــــــــــــــــدائي

     

    (1) حول مسألة الماركسية و المجتمع الجزائري ارجع  إلى العمل المرجعي : ماركس كارل و إنقلز فريدريك : الماركسية و الجزائر ، ترجمة جورج طرابيشي، بيروت دار الطليعة ، 1974.

    مشاعي- إقطاعي- رأسمالي- شيوعي متنبأ به" نلاحظ أن الماركسية كفكر شمولي، قد مارست إغراء كبير في الدراسات السوسيولوجــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــيـة و الانثروبولوجية في نشأتها خاصة في فرنسا و إيطاليا و البلدان الشرقية الشيوعية و بلدان العالم الثالث التي كانت تسير في فلكها، ففي علم الاجتماع السياسي نلاحظ خاصة أعمال كل من أنطونيو قرامشي (Gramsci. A) في إيطاليا و نيكوس بــــــــــــــــــــــــــــــــــولنــــــــــــــــــــــزاس (Polantzas. N) في فرنسا، فهذه المدرسة أسهمت بصفة كبيرة في بعض الدراسات حول موضوع بحثنا.

    أما في حالة المغرب العربي فبعد الحرب العالمية الثانية وظهور حركات التحرر الوطني في البلدان المستعمرة و المستعمرة و موافق الأحزاب الشيوعية الأوروبية، خاصة الحزب الشيوعي الفرنسي(PCF)، و التي ربطت التجديد الوطني داخل المستعمرات بالتجديد الاجتماعي للطبقات العمالية. أما بعد الاستقلال فاستمر هذا المد المصاحب للبعد التحرري من خلال رفض الاستعمار و أدواته بما في ذلك المعرفية (نقد المدرسة الاستعمار في العلوم الاجتماعية) و بذلك ظهرت مفاهيم: الطبقة الاجتماعية، نمط الإنتاج الأسيوي، الصراع الطبقي، المثقف العضوي، البورجوازية ...الخ و استخدمت في تحليل هذه المجتمعات بدلا من المفاهيم و المصطلحات المستعملة من المدراس الأخرى؛ و بهذا ظهر بعض رواد هذه المدرسة في المغرب العربي على غرار : "إيف لاكوست، جون كويزنيه، ماكسيم رودنسون، روني غاليسو، عبد القادر جغلول، علي الكنز...الخ، و الذين كانت لهم إسهامات كبيرة في تطبيق المقاربة الماركسية حول المجتمعات المغاربية.

     بذالك يتضح أن الإشكال الأساسي للمدرسة الماركسية على غرار المدرستين السابقتين (الاستعمارية و الانقسامية) هو أنها لم تستطع أن تعزل ركائزها الفكرية عن البيئة التي نبتت منها (البيئة الأوروبية) و بهذا استحالة تطبيقها ميدانيا؛ فـــــقد اختلف التحليل الماركسي عن التحليل الانقسامي بدأ من تحليلات ماركس وصولا إلى تحليلات أيف لكوست، من خلال تحليلهما لوجود أرستقراطية قبلية تتكون من رؤساء القبائل و الأسر الكبيرة تقوم على احتكار الجاه و السلطة و الثروة داخل المجموعات.  

    فلاكوست يبرز أهمية المنظومات القبلية و العشائرية التي تتساوى في الظاهر و لكنها تخضع في الواقع إلى أرستقراطية متميزة على شكل تراتبي، و هو ما تتجاهله الانقسامية.

    أما في الجزائر فالسوسيولوجيا الماركسية ممثلة خاصة في كتابات عبد القادر جغلول، من خلال دراسته لفكر ابن خلدون من زاوية مقاربة بين الفكر الخلدوني و الفكر الماركسي يؤكد بطريقة سلسلة أن الخلفيات الماركسية متواجدة في الفكر الخلدوني؟ (1)

     

     

     

     

     

     

     

     

     

     (1) جغلول عبد القادر : الإشكاليات التاريخية : في علم الاجتماع السياسي عند ابن خلدون، دار الحداثة للطباعة و النشر و التوزيع (ش م م)، الطبعة الثالثة (3)،  بيروت، 1982

     

    قائمة المراجع المستعملة:

          (1) Archer. M (2008) : Structure, Agency and the Internat Conversation, Cambridge, Cambridge University Press.

     (2) Arendt. H (1995) :  Qu’est-ce que la politique ? Paris, Éditions du Seuil.

           (3) Barber. B (1997) : Démocratie forte, Paris, Éditions Desclée de Brouwer.

         (4) Barthey. Y et al. (2014) : « Sociologie pragmatique : mode d’emploi », Politix, vol. 3, n° 103, pp. 175-204.

         (5) Bert J.-F. & Lamy. J (2014) : « Foucault et les sciences humaines et sociales : entre dialogues et incompréhensions », dans Bert J.-F. & Lamy. J (dir.) :  Michel Foucault, un héritage critique, Paris, CNRS Éditions.

          (6) Bessy. C & Chateaureynaud. F (2014) : « L’attention aux choses. Chemins pragmatiques de l’authenticité », dans Experts et faussaires (deuxième édition), Paris, Éditions Pétra, pp. 431-504.

           (7) Blondiaux.  L. (2008), Le Nouvel esprit de la démocratie, Paris, Éditions La Découverte.

     Bloor. D (1983) : Socio-logie de la logique ou les limites de l’épistémologie, Paris, Éditions Pandore.

            (8) Boltanski. L & Thévenot. L (1991), De la Justification, Paris, Éditions Gallimard.

             (9) Cardon. D (2010) : La Démocratie Internet. Promesses et limites, Paris, Éditions du Seuil.

            (10) Cefai. D (2007), Pourquoi se mobilise-t-on ? Paris, Éditions La Découverte.

            (11) Chateauraynaud. F. (2006) : Les Asymétries de prises. Des formes de pouvoir dans un monde en réseau, Document du GSPR [hal.archivesouvertes.fr/docs/00/11/16/74/PDF/Les_asymetries_de_prises20 06.pdf].

            (12) Chateauraynaud. F (2011), Argumenter dans un champ de forces. Essai de balistique sociologique, Paris, Éditions Pétra.

            (13) Chateauraynaud. F & Debaz. J (2011) : « Entre lobbying et déontologie : Histoires de conflits d’intérêts », Socio-Informatique et Argumentation, avril, [socioargu.hypotheses.org].

            (14) Crozier. M & Friedberg. E (1977) : L’Acteur et le système, Paris, Éditions du Seuil.

            (15) Demeslay. J (2013) : L’Institution mondiale du dopage. Sociologie d’un processus d’harmonisation, Paris, Éditions Pétra, 2013. DEWEY J. (2005 [1934]), L’Art comme expérience, Paris, Éditions Gallimard.

             (16) Dewey.  J (2010 [1927]), Le Public et ses problèmes, Paris, Éditions Gallimard.

             (17) Douglas. M (1986) : Comment pensent les institutions, Paris, La Découverte.

             (18) Dubet. F (2011) : Le déclin des institutions, Paris, Seuil, 2002.

             (19) François Pierre (Dir.) : Vie et mort des institutions marchandes, Paris, Presses de Sciences Politique.

             (20) Laforgue. D, Corinne Rostaing (dir.) (2010) : Violences et institutions : Réguler, innover ou résister ? Paris, édition CNRS.

             (21) Lagroy. J & Offerlé. M (Dir) (2010) : Sociologie de l’institution, Paris, Berlin, édition CNRS Alpha ».

             (22) Weber. M (1971) : Économie et société, Paris, Éditions Plon.

             (23) WEBER Max (2013) : La Domination, Paris, Éditions La Découverte.

     

     

     

     

     

     

     

  2.